وورد خبر الفتكين بأنه برز إلى ديالى ونزل عليه مستعدا للحرب وعقد عليه جسورا ليعبر عليها واعتقد أن يلقى العساكر في فضاء بين ديالى والمدائن وظن أنّه يتمكن بالجولان فيه مما يريده وذلك في سنة أربع وستين وثلاثمائة. وسار عضد الدولة كما حكينا في الجانب الشرقي وبختيار بازائه في الغربي فلما صار بدير العاقول عبّى عسكره تعبئة اللقاء وجعل موكب خاصته في القلب وفي ميمنته أبا الفتح ابن العميد وجيش الري وفي ميسرته أبا إسحاق إبراهيم بن معزّ الدولة ومحمد بن بقية وطائفة من عسكر بختيار ونزل المدائن على هذه الحالة من الترتيب. فاتخذ دعوة دعا إليها بختيار وإخوته ومحمد بن بقية وسائر عسكر بغداد وخلع عليهم ضروب الخلع على مقدار مراتبهم وجعل ذلك كالوداع وأظهر الرحيل إلى فارس وأمر بإعداد الميرة في المنازل. فلمّا قرب من جمرة القوم ومجتمعهم حمل عليهم فلم يثبتوا واستأمن بعضهم وحكم السيف في الباقي فقتل خلق منهم وألجأتهم الهزيمة إلى تلك الجسور التي عقدوها على ديالى فازدحموا عليها وأرهقهم الأمر فهلك منهم ومن العيّارين الذين وازروهم بالقتل والغرق خلق كثير وركب عسكر عضد الدولة أكتافهم وعبروا تلك الجسور على آثارهم فاستباحوا عسكرهم وسوادهم وألقوا النار في خيمهم وخركاهاتهم وأدركهم الليل فبات هؤلاء وهرب أولئك لا يلوى أحدهم على صاحبه.
نسأل الله العظيم أن يجعلنا منهم في الدنيا والآخرة، وأن يحشرنا في زمرة الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. واتصلت هذه الرسائل ثلاثة أيام والشغب يزيد إلى أن أعلنوا بالقبيح وكادوا يزحفون إليه ويأتون عليه فاستعاذ بعضد الدولة وطلب منه ما كان وعده به من التوسط فراسلهم عضد الدولة بما سكن منهم وأمرهم بالتفرق ووعدهم بالنظر في أمرهم. أحمد بن محمد بن غالب بن خالد بن مرداس أبو عبد الله الباهلي البصري المعروف بغلام خليل، سكن بغداد، روى عن سليمان بن داود الشاذكوني، وشيبان بن فروخ، وقرة بن حبيب وغيرهم، وعنه ابن السماك وابن مخلد وغيرهما، وقد أنكر عليه أبو حاتم وغيره أحاديث رواها منكرة عن شيوخ مجهولين. كنت في جملة السائرين من الريّ في صحبة أبي الفتح ابن العميد وما كان إشفاقنا ولا حذرنا كلّه إلّا من سبق الأتراك إيانا إلى أسفل واسط إلى الموضع المعروف بباذبين وأن يجعلوا النهر وراءهم مع المدينة والميرة وأن يتركونا حتى نقطع إليهم مفازة بنج وبنج ونلقاهم على إعياء وكلال وليس وراءنا عمارة ولا نجد ما ننزل عليه فإن طاولونا أياما كان الهلاك وإن ناجزونا حين ورودنا كانوا جامّين مستريحين ونحن على حال تعب وضعف وكنّا من كثرة العدد على ما وصفت فيما تقدم. فلمّا رأى ذلك زحف على نظامه وهيأته حتى اتصلوا بهم بعد أن أشرفوا على الهلاك.
فلمّا اتصل به ما اختاره بختيار لنفسه من الخلع سكنت نفسه وهو حينئذ مع الأتراك وعند ألفتكين بتكريت فجرت بينه وبينهم مناظرات في الرجوع الى بغداد فسألوه الامتداد معهم إلى الشام فلم يمكن ذلك لأنّ القوم منهزمون وعلى حال اضطراب فوعدهم من نفسه إذا ثبتت أقدامهم وكان له قوة وفيهم منعة أن يحتال لهم ويعود إليهم أو يدبر لهم في الاجتماع معهم. ثم أنفذ في الجانب الشرقي ابن أخ لمحمد بن بقية وزيره يعرف بأبي الحمراء وهو لقب غلب عليه، مع طائفة من بنى شيبان ليتطرف بغداد ويحاصرها من ذلك الوجه وكانت خيول عضد الدولة والريّ وبختيار متوجهين إليه سائرين لحروبه وكان أبو تغلب من ناحية الموصل يمنع الميرة وينفذ إليه سراياه ورجاله. فأمّا ألفتكين فإنّه لما توسط في مسيره إلى بغداد أنفذ سرية في أربعمائة غلام من الأتراك لكبس أبي تغلب فأرهقوه وشغب مع ذلك جنده عليه فهرب إلى الموصل هربا قبيحا وتقطع عسكره. لما سمع ألفتكين بخبر عضد الدولة وحصوله بالأهواز نخب قلبه ورأى أن يحصل ببغداد ويجعلها وراء ظهره وتكون حربه على ديالى. فلم يوفّق الأتراك لذلك وانصرفوا إلى بغداد ورأوا من الصواب لهم أن يملكوا بغداد ويجعلوها وراء ظهورهم وتكون حربهم على ديالى فكانت الخيرة لنا فيه ودخلنا واسطا بغير مانع.
ولكن أظهر مساعدة كثيرة لعضد الدولة فيما كان يدبره وخدمة فيما كان يراه، وإنّما فعل ذلك حذرا على نفسه وخوفا أن يردّ الى مرتبته وعلما بأن بختيار إن عادت يده في التدبير قبض عليه وطمع فيه وعامله بما عامل به وزراءه الكفاة عند حاجته إلى المال وكره عضد الدولة أن يخلطه بوزرائه الكفاة مثل نصر بن هارون وكان معه في هذه الوقعة وهو شيخ الكتّاب قد سلّم له صناعة الحساب خاصة فينسبه الناس الى قلة المعرفة بالرجال ونقصان الرعاية لأهل السابقة والتقدم في الكفاية وكره أيضا أن يصرفه صرفا قاطعا فيكون قد خيّب ظنه وأكذب تأميله فاستوزره لابنه أبي الحسين ابن عضد الدولة وعرض عليه ما يشاء أن يتقلده من الأعمال فاختار واسطا وتكريت وعكبرا وأوانا وقاطع على هذه الأعمال ووفّر على ما كان العمال يدخلون فيه زيادة عظيمة، فأمر عضد الدولة أن يعقد عليه جميع ذلك. أما المرزبان فإنّ عضد الدولة سام بختيار أن يكاتبه بالاصعاد وكان متوليا البصرة ليرضى بما رضى به أبوه من خلوّ الذرع من تدبير الجند والرعية فكاتب وأنفذ كتابه على يد ثقة من ثقاته يعرف بعلي بن محمد الجوهري وكان صحبه من شيراز ووصّاه بموافقة محمد بن دربند وكان اسفهسلار جيش البصرة وهو قريب للحسين بن إبراهيم وهو متقدم في جيش عضد الدولة. فلمّا ورد الجوهري على أثره البصرة بدأ بمحمد بن دربند وأوصل ما كان معه من الكتب إليه فصار به وبها إلى المرزبان وعندهما أنّه غافل فوجده مستعدا للخلاف وقبض عليهما جميعا وأظهر الخلاف وكاتب ركن الدولة بالبكاء والنوح وأعلمه ما جرى على أبيه بختيار وعمومته وأنّ جميع ما يكاتب من جهة عضد الدولة ووزيره أبي الفتح ابن العميد عن بختيار إنّما هو تمويه وأنّ الحيلة استمرت وتمت لهما على القبض على أبيه وأنّه امتنع ثقة بتداركه إياه ومعه وأنفذ قاصدين عدّة بكتب متوالية.