فقلنا: وما الذي تفرون منه قالوا: دخان الطرفاء يهضم الطعام وعيالنا كثير! قال: وما يدعوه إلى هذا قال: ليقتصر كل امرئ في الأكل حتى إذا أتي بالذي يشتهي بلغ منه حاجته. وما أظن أن أحداً يدعو مثلي إلى الحربية من الباطنة ثم يأتيه بكسرات وملح. أبو العباس الشيباني مولاهم، الملقب بثعلب، إمام الكوفيين في النحو واللغة، مولده في سنة مائتين، سمع محمد بن زياد الأعرابي والزبير بن بكار والقواريري وغيرهم، وعنه ابن الأنباري وابن عرفة وأبو عمرو الزاهد، وكان ثقة حجة دينا صالحا مشهورا بالصدق والحفظ، وذكر أنه سمع من القواريري مائة ألف حديث. وقال نفطويه: حدثني بعض الهاشميين أنه وجد للمهتدي سفط فيه جبة صوف وكساء كان يلبسه بالليل ويصلي فيه وكان قد أطرح الملاهي وحرم الغناء وحسم أصحاب السلطان عن الظلم وكان شديد الإشراف على أمر الدواوين يجلس بنفسه ويجلس الكتاب بين يديه فيعملون الحساب وكان لا يخل بالجلوس الاثنين والخميس وضرب جماعة من الرؤوساء ونفى جعفر بن محمود إلى بغداد وكره مكانه لأنه نسب عنده إلى الرفض. وما كان من القوارير فمن أصحاب الزجاج. وبعد فهل سمعتم بأحد قط فخر بشدة أكل أبيه فقال: أنا ابن آكل العرب بل قد رأينا أصحاب النبيذ والفتيان يتمدحون بكثرة الشرب كما يتمدحون بقلة الرزق.
وكنت أعرفه بشدة البخل وكثرة المال. قال: وكان الغزال أعجوبة في البخل. فإذا أعيا عليه الأمر أخذ من ساكنه جوافة بحبة وأثبت عليها فلساً في حسابه! فإذا أراد أن يتغدى أخذ الجوافة فمسحها على وجه الرغيف ثم عض عليه! وربما فتح بطن الجوافة فيطر جنبيها وبطنها باللقمة بعد اللقمة! وفيها: ملك الحاكم العبيدي بلاد مصر بعد أبيه العزيز بن المعز الفاطمي، وكان عمره إذ ذاك إحدى عشر سنة وستة أشهر، وقام بتدبير المملكة أرجوان الخادم، وأمين الدولة الحسن بن عمارة، فلما تمكن الحاكم قتلهما وأقام غيرهما، ثم قتل خلقا حتى استقام له الأمر على ما سنذكره. وقام محمد بن هشام بن عبد الحبار بن الناصر عبد الرحمن ولقب المهدي سنة عشر شهرا ثم خرج عليه ابن أخيه هشام بن سليمان بن الناصر عبد الرحمن وبويع وتلقب بالرشيد فحاربه عمه وقتله واتفق الناس على خلع عمه فاختفى ثم قتل وبايعوا ابن أخي هشام المقتول سليمان بن الحكم المستنصر ولقب بالمستعين ثم قاتلوه وأسر سنة ست وأربعمائة. وكان يقول: ليس يفسد الناس إلا الناس: هذا الذي يتكلم بالكلام البارد وبالطرف المستنكرة لو لم يصب من يضحك له وبعض من يشكره ويتضاحك له - أوليس هو عنده إلا أن يظهر العجب له - لما تكلف النوادر. قالوا: ورشة المنيوم هو كريم ومن كرمه نفر.
فإذا خاف أن ينهكها ذلك وينضم بطنها طلب من ذلك السماك شيئاً من ملح السمك فحشا جوفها لينفخها وليوهم أن هذا هو ملحها الذي ملحت به! وشرب مرة نبيذ وغناه المغنى فشق قميصه من الطرب. وحكى ابن عساكر عن بعض مشايخ مصر: أن طولون لم يكن أباه وإنما كان قد تبناه لديانته، وحسن صوته بالقرآن، وظهور نجابته وصيانته من صغره، وأن طولون اتفق له معه أن بعثه مرة في حاجة ليأتيه بها من دار الإمارة، فذهب فإذا حظية من حظايا طولون مع بعض الخدم وهما على فاحشة، فأخذ حاجته التي أمره بها وكر راجعا إليه سريعا، ولم يذكر له شيئا مما رأى من الحظية والخادم، فتوهمت الحظية أن يكون أحمد قد أخبر طولون بما رأى، فجاءت إلى طولون فقالت: إن أحمد جاءني الآن إلى المكان الفلاني وراودني عن نفسي، وانصرفت إلى قصرها، فوقع في نفسه صدقها فاستدعى أحمد وكتب معه كتابا وختمه إلى بعض الأمراء، ولم يواجه أحمد بشيء مما قالت الجارية، وكان في الكتاب أن ساعة وصول حامل هذا الكتاب إليك تضرب عنقه وابعث برأسه سريعا إلي. فلما وضعوا الخوان بين يديه فأجال يده فيه وهو أعمى فلم يقع إلا على ذلك الرغيف وقد عل أن قوله: ليس منه حشمة لا يكون إلا مع القليل.
ولذلك قال شاعرهم: فجنبك الجيوش أبا زنيب وجاد على مسارحك السحاب وإذا نظرت في أشعارهم علمت أنهم قد أكلوا الطيب وعرفوه لأن الناعم من الطعام لا يكون إلا عند أهل الثراء وأصحاب العيش. قال ابن الجوزي: وكثر الرطب في هذه السنة ببغداد حتى بيع كل ثمانية أرطال بحبة، وعمل منه تمر وحمل إلى البصرة. ولذلك قالت العرب: قال الشاعر: تكفيه فلذة كبد إن ألم بها من الشواء ويروي شربه الغمر وقال: لا يتأرى لما في القدر يطلبه ولا تراه أمام القوم يقتفر وقال: لا يغمز الساق من أين ولا وصم ولا يعض على شرسوفه الصفر والصفر هي حيات البطون إنما تكون من الفضول والتخم ومن الفساد والبشم. فترة مسائية من الساعة 4 عصرًا حتى الساعة 10 مساءً. قال: وفيها هاجت بالموصل ريح محمرة ثم اسوّدت حتى كان الإنسان لا يبصر صاحبه نهارا، وظنّ الناس أنها القيامة ثم انجلى ذلك بمطر أرسله الله عليهم. ولو كان شدة الضرس يعد في المناقب ويمدح صاحبه في المجالس لكان الأنبياء آكل الخلق ولخصهم الله - جل ذكره - من الرغب بما لم يعطه أحداً من العالمين. وفيها: ظهر ببغداد رجل يعرف بأبي جعفر بن علي الشلمغاني، ويقال له: ابن العرافة، فذكروا عنه أنه يدعي ما كان يدعيه الحلاج من الإلهية، وكانوا قد قبضوا عليه في دولة المقتدر عند حامد بن العباس، واتهم بأنه يقول بالتناسخ فأنكر ذلك.